عبد الرازق أحمد الشاعر

صفارات الإنذار

بقلم: عبد الرازق أحمد الشاعر

كانت يداه المعروقتان ترتجفان، وقشعريرة باردة تتمدد في شرايينه المحتقنة. وكان يحاول جاهدا أن يبتلع ما تبقى في حلقه الناشف من رضاب. وعند قسم المأكولات، وضع صاحبنا عامين من لحم فوق ذراعه الأيسر ليخبيء في جسده الطري ما يتسنى حمله من طعام. وبين جسديهما الباردين دس صاحبنا تفاحة لطفلة الخامسة وإجاصة لطفل السابعة، وبعض المشروبات الغازية الباردة. وظل يحتضن طفله كما لم يفعل من قبل حتى اقترب من باب المتجر. كان يمني النفس بخروج آمن، وعودة حميدة إلى طفلين يتضوران جوعا في بيت ليس له. لم يكن المسكين يعرف أنه يحمل تحت إبطه دليل إدانة، ولأنه لا عهد لها بالمتاجر الكبيرة، وقع في فخ جهاز الإنذار. وبعد خطوتين، توقف الرجل ليضع حمله الثقيل من فوق يساره، لتتساقط بين أقدامهما ما ووري من بضائع. وبسرعة مدهشة، تحلق الناس حول اللص الشريف، لكن أحدا من الواقفين لم يرمه بحجر. ووقف حارس غليظ الكف خلفه تماما، لكنه لم يبادر بصفعة ولا بركلة. عاد الرجل إلى المتجر، لكن صفارات الإنذار ظلت صامتة احتراما لحزنه. وأمام السيد رادزوان مدير متجر تاسكو، جلس الرجل في هدوء تام وحزن مطبق، لكنه لم يشعر بالدونية، ولم يطأطئ رأسه خجلا رغم معرفته بفداحة ما فعل. “كنت عائدا من المشفى حيث ترقد زوجتي في غيبوبة تامة. وفي بيت أحد الأقارب ينتظرني طفلان جائعان. كيف أعود إليهما بيد خاوية وقلب مريض؟ وكيف أحتمل زيغان بصريهما، وزرقة شفاههما؟ لا أشعر بالخجل مما فعلت .. ولو خليتم سبيلي، سأمر على متجر آخر لا توجد به صفارات إنذار.” كان الرجل يختلس النظرة تلو النظرة، ليرى أثر حديثه في وجه السيد رادزوان، وقبل أن ينتهي، لمح دمعتين كبيرتين تتكوران في عيني الرجل. عندها، انفجر باكيا، وضم كتلة اللحم الصغيرة بين ذراعيه .. ثم أكمل حديثه: “تركتمونا دون عمل ودون أمل، وركلتمونا بكل ما أوتيتم من قسوة، لتخرجونا من مساحة جد ضئيلة من الحياة. تعدون أموالكم بالآلات، ونعد أيامنا باللقيمات والزفرات. ثم تضربون أيادينا بكل قسوة حين ندس أيادينا المشققة في جيوبكم لننتزع حقنا في الهواء. أين أذهب بأطفالي، ولا عائل لهم سواي؟ وكيف أطعمهم اليوم، وغدا، وبعد غد، ولم تتركوا لنا فتاتا تلقوه في مزارعكم للطيور المهاجرة؟ دلني أيها النبيل على طريق يحتمل أقدامنا المتعبة، أو على بلاد لا تضيق بأنفاسنا اللاهبة؟” بين الفينة والفينة، كان اللص الشريف يرفع طرف كمه ليجفف دموعه المتلاحقه، وحين رفع رأسه، وجد السيد رادزوان جاثيا على ركبتيه أمامه، يستعطفه والدموع تبلل شاربه ولحيته. وقف الرجلان، وتعانقا طويلا، ثم جلسا جنبا إلى جنب على أريكة وثيرة في مكتب مدير المتجر. وبعد لحظات، تكوم في يد الرجل ما يسد رمق أسرته أسبوعا على أقل تقدير. وخرج الرجل بأكياس ملأى بما لذ وطاب من قسم المأكولات بصحبة طفله دون أن تدوي صفارات الإنذار. وفي مطلع الأسبوع المقبل يتسلم السيد لوبين وظيفة تليق بإنسانيته في متجر دخله منذ قليل بغرض السرقة. لكن إندونيسيا المكتظة بآلام الفقراء لن تقنعها تلك النهاية، وإن كانت طوباوية سعيدة، ولن تترك مصائر أبنائها بين أيادي أصحاب المتاجر الواسعة، ليصفحوا عمن يشاءون أو ليضربوا رءوس من يشاءون. تحتاج إندونيسيا إلى حاكم بقامة أرسين ورحمة رادزوان لتخرج الفقراء من غياهب الحزن إلى رحابة الإنسانية، لتنتزع وبكل قوة ما سرقه الأثرياء والإقطاعيون من حصة الفقراء في وطن أصبحوا عبئا فوق ترابه. تحتاح إندونيسيا إلى يد لا تتردد في اقتحام جيوب الأغنياء، لتعيد ثروات الوطن إلى أناس اضطرتهم الحياة إلى دس حقوقهم المشروعة تحت آباطهم هروبا من صفارات إنذار لا ترحم

شاهد أيضاً

الأزمة في تونس: كيف وصلت البلاد إلى هذه المرحلة؟

تحقيق/حماده جمعه في عام 2011 انطلقت شرارة ربيع الثورات العربية من تونس، وما لبثت أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *