العطاء حرية للذات وفن للإعتراف بالآخر

سمير اليوسف كاتب فلسطيني
ربطتني مهزلة الحياة لأعوامٍ عديدة بإمرة كانت تُصرّ على إهدائي قميصاً ملوناً في كل مناسبة، مناسبة عيد ميلادي أو عيد ميلاد يسوع المسيح نفسه، هذا مع انها تعرف بأنني لا ارتدي القمصان الملوّنة. ولربما كانت تريد تشجيعي على التخلي عن زيّي التقليدي، التي-شيرت الأسود، كما ظننت في البداية. ولكن لا، فهي استمرت في اهدائي تلك القمصان المُثيرة للخجل رغم انني لم أرتدِ أيا منها مرة واحدة.
العطاء نعمة، من دون شك، ولكنه أيضاً فن في معرفة الآخر.
أن تكون قادراً على العطاء، وتحب أن تُعطي، نعمة لا تُضاهى، ليس فقط لما لعطائك من أثر هام على من يتلقى العطاء حدّ انقاذ حياته أحياناً. ولكن أيضاً لأن العطاء يحررك من الرغبة بالتملك والحفاظ على الأشياء كما هي. العطاء يحررك من الخوف الذي يجعلك راغباً بالتملك والتمسك بما لديك. يحررك من حالة السكون والإنقباض ومن النظرة المرتابة والمحتسبة لأسوأ التوقعات في ما يتعلق بالآتي والمستقبل. تُعطي، تتخلص مما تملك، فتصير حراً بل وحرّاً حد الجنون الجميل أحياناً.
ولكن لا بد من ان تكون فناناً في العطاء ماهراً أيضاً، وإلا لا جدوى هناك من الأمر. من الضروري أن تعرف بالضبط ما الذي يجب أن تعطيه وكيف وإلى من، ومن أي نوع يكون العطاء. أي لا بد من التفكير بالآخر، بمن تعطي، وإلا يمكنك أن تلقي بما لديك في النهر أو سلة المهملات.
أن تعطي هي أن تعطي لآخر مختلف عن نفسك. والرغبة هي رغبة الآخر، على ما يقول فيلسوف التحليل النفسي جاك لاكان. ولكن بالنسبة للمرأة التي ربطني بها القدر هازلا، سيدة القمصان الملوّنة، كانت الرغبة رغبتها هي التي كانت عاجزة عن رؤية أي شخص آخر سواها. فهي حينما كانت أحياناً تستخدم حاسة النظر، فإنها كانت تنظر في المرآة فقط ولا ترى سوى نفسها. تفرقتْ سُبل الحياة بيننا، غنيّ عن الإضافة، لأسباب أهم من القمصان الملوّنة وإن كانت وثيقة الصلة بالعطاء والقدرة، أو انعدام القدرة، على رؤية الآخر.
أن تُعطي هو أن تعطي ما يريده الآخر، ما يحتاج إليه ويرغب فيه وإلا من الأفضل إلا تُعطي فيضطر الآخر الى شكرك شكراً كاذباً. أو قد يضيق ذرعاً بعطاياك، وبك أنت نفسك، الذي في كل مناسبة تعطيه ما لا يريده أو يحتاجه، إنما تُبرهن له أنك لا تعرف رغباته حقاً ولا يهمك أن تعرفها أصلاً. العطاء يصير أشبه بالإهانة.
ومن المهم أيضاً أن تعطي من يستحق العطاء. ليس لأجل الحصول على الشكر أو التعبير عن الإمتنان المُستحق، ولكن لأن من الضروري لمن يحصل على العطاء أن يعي بالآخر الذي أعطاه. ليس من باب الإحساس بالدونية أو حتى الإمتنان ولكن من باب الإعتراف بوجود آخر مختلف يعطي ومن حقه أن يأخذ أيضاً.
عندي شقيق تعطيه هدية فيتعامل مع الأمر وكأنه وجد ما أعطيته إياه في الطريق، وكأن شخصاً مجهول الهوية نسي شيئاً في الطريق وهو جاء بالصدفة ووجده. بالنسبة له، أنت الذي أعطيته لا وجود لك، حتى لكي يقول لك كلمة شكراً. هذا العجز عن رؤية الآخرين، إلا بمثابة وسائل وأدوات للحصول على ما يريده، نابع عن العجز التام على العطاء، وعن عبوديته للرغبة المطلقة بالتملك والاحتفاظ بما يملك، حتى أنه غير مُستعد للتخلي عن البول والبراز. ومن هنا القول الشعبي “لا يتبوّل على إصبع مجروح” أو نظرية فرويد حول اللذة الشرجية المصدر التي تجعل البعض يقاوم الحاجة إلى التغوّط حتى اللحظة الأخيرة.

شاهد أيضاً

توحيد سلم الرواتب ومكافأة نهايه الخدمه للعاملين في الدولة

بقلم : أشرف عمر رواتب الموظفين في اي دوله تلتهم اكبر قدر من الدخل القومي …