بعنوان “اللى يحب النبى يزق

كتب رامي جلال عامر
كانت مشكلة «الشيخ حسنى» أنه لا يريد أن يصدق أنه أعمى (رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، وفيلم «الكيت كات» لداود عبدالسيد). والعمى هو فقد الإدراك البصرى لعوامل عضوية أو عصبية، وهو أنواع منها: الجزئى والنصفى والنفسى والليلى واللونى.
وكما يفقد الأفراد أبصارهم، فإن المؤسسات والدول قد تفقدها أيضاً، وهنا لا يكون الحديث عن «بصر»، بل عن «رؤية» وهى الطموح والرغبة والتصور المستقبلى الذى تعمل من أجله الدولة، وهى توضح الاتجاه، وبناء عليها يتم اتخاذ القرارات عبر تقييم العوائد والخسائر وترتيب الأولويات. يتم كل هذا وفق مبادئ التخطيط الاستراتيجى التى تجيب عن أسئلة: ماذا نفعل؟ ولمن؟ وكيف؟
تبعاً لابن خلدون، فإن الذكاء من عيوب السياسى، لأنه إفراط فى الفكر، تماماً كما أن البلادة هى إفراط فى الجمود، وبالتالى فليس مطلوباً أن يكون القائد فى ذكاء أينشتاين، عليه فقط أن يحرص على ألا يعمل أينشتاين طباخاً فى مطعم، فقادة الدول نوعان: إما أن تكون لديهم رؤية عميقة، وإما أن يوظفوا آخرين ممن لهم تلك الرؤية.
اليابان دولة منعزلة فى المحيط الهادى، ضُربت بالقنابل النووية، ولا تمتلك موارد طبيعية، وثلاثة أرباع مساحتها غير صالحة للحياة. ابتعدت رؤيتها عن فكرة التوسع الأفقى بشراء الأسلحة ومحاولات الانتقام. وارتكزت على التوسع الرأسى عبر بناء عقل الإنسان اليابانى، وتفعيل ما سُمى بـ«الإدارة اليابانية»، وتشمل إدارة الجودة الكاملة، والعمل الجماعى، وتحويل العمل لقيمة اجتماعية سامية وتشجيع الابتكار والتطوير.
انطلقت رؤية «لى كوان» فى سنغافورة من فكرة فرض سلطة الدولة لتحقيق نهضة اقتصادية، وذلك عبر المحاربة الصارمة للفساد الإدارى والقضاء على البيروقراطية مع إفساح الطريق للمستثمرين الأجانب، وفتح المجال للنخب العلمية الأجنبية المنتقاة للهجرة إلى بلاده التى كان تعداد سكانها محدوداً (مليون وستمائة ألف نسمة عام 1960، ولم يكن لديهم أى شىء حتى ماء الشرب).
استندت رؤية الجنرال «عمر توريخوس» فى بنما على التحرر من الهيمنة الأمريكية، لفرض السيطرة الكاملة على قناة بنما، وقد وصل إلى ذلك بتوقيع معاهدة توريخوس/ كارتر عام 1977.
اعتمد «مهاتير محمد» فى تحقيق رؤيته لماليزيا على عدة محاور، أهمها التدريب الجاد على التكنولوجيا الحديثة لنقل البلاد سريعاً إلى آفاق أعلى عبر التواصل مع العالم الخارجى. بجانب توفير مستويات مرتفعة من التعليم، وتشجيع إتقان اللغة الإنجليزية، مع إرسال البعثات التعليمية للعالم المتقدم، والزج بكل هؤلاء المواطنين المؤهلين إلى سوق العمل.
إما أن تكون للدولة رؤية عامة، وإما أن تتخبط فى غياهب الارتجال ونظريات «رزق يوم بيوم»، و«اللى يحب النبى يزق».. يجب أن تكون الرؤية واقعية وسهلة الفهم. وفكرة أن تكون الدولة «قد الدنيا» ليست رؤية، لكنها مجرد تمنٍ عاطفى، كما أن إنشاء طرق وكبارى مثلاً ليس رؤية كذلك، لكنه «مهمة» ضمن رؤية ممكن أن تكون «تسهيل الحركة التجارية البرية»، بعد هذا التحديد سنجد أن آليات التنفيذ تتم بشكل تكاملى يراعى الأولويات، وقتها لن يحدث أى هدر للأموال فى طرق نائية لن تسير عليها خمسون عربة فى العام أو أخرى عبارة عن وصلات طويلة تسهل على المواطنين الذهاب للمصايف مثلاً.. تفعيل المهام دون رؤية قد يحقق سعادة وقتية، أما الرؤية دون آليات تنفيذ، فهى مجرد شعار، وكلاهما معاً يكفل النجاح.. الإدارة رؤى، وليست ارتجالاً.

شاهد أيضاً

الأزمة في تونس: كيف وصلت البلاد إلى هذه المرحلة؟

تحقيق/حماده جمعه في عام 2011 انطلقت شرارة ربيع الثورات العربية من تونس، وما لبثت أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *