كان هنا ثورة

بقلم الكاتب الصحفى عبد الرازق احمد الشاعر

الخيار لك .. إما أن تكون بوعزيزيا حتى النخاع، فتتمرد كما يجب، وتثور كما تحب .. وتحترق أمام الشاشات كلها وحتى آخر نفس في رئتيك المتعبتين لتذوب حتى آخر شحمة في كرشك المترهل، أو تكتفي بالصمت الثقيل انتظارا لما لن يكون. فالأرض ليست لك، ولا الميادين، ولا الوظائف .. بإمكانك أن تقف في أي طابور تريد، لكنك في النهاية ستجد شباك الحياة مغلقا حتى إشعار يرونه بعيدا وأراه مستحيلا. ثقيلا جئت إلى هذا العالم، وكرها حملك رحم الوطن، وحين شهقت لأول مرة، لم تمتد إليك يد لتمسح أول دمعة أو لتزيل أول دهشة. فلما درجت، ضاقت بأقدامك كل السبل، ولفظتك كل الأعتاب. وتعلمت الزراعة لكنك لم تتعلم الحصاد، وقرأت تاريخ الأمم، لكنك ظللت تجهل كل الشعاب التي تؤدي إلى العتق. وحين رحلت، حملت أهازيج الوطن في رأسك سفاحا، وظللت تحلم بالعودة إلى مسقط حزنك لتمارس حقك الأخير في التنفس الحر، لكنك ظللت أسيرا لوهم الصور، وعبدا لكل سادات قومك، وحررتك الغربة من ذل الحاجة، لكنها لم تفجر في روحك الخاملة براكين التمرد. وحين رأيتهم يخرجون من معاطفهم في انتظار الرصاصة، قررت أن تعود. لكن الميادين التي رسمها الجرافيتي ذات غضبة لا تشبه الميادين التي رأيتها بعد الرجوع، ولا الكاميرات ولا الأعناق ولا زجاجات المولوتوف، ولا الأقلام ولا الهراوات ولا الأسلاك الشائكة. مات البوعزيزي، وماتت الثورة، وطمس نخاسو الوطن ملامح الشهداء وأحرقوا ملابسهم المتسخة وخيامهم الرثة، وأهرقوا أسطالا فوق أسطال من الدجل الرخيص فوق دمائهم المتخثرة في شرايين الوطن. واليوم، ينزل الباعة الجائلون أسواق الميادين ليروجوا لبضائعهم الرخيصة، ويؤكدوا أنهم من فجر عيون الثورة في كل الميادين وهم يحملون صور المفسدين في ثنائية مضحكة، وكم فيك يا مصر من مضحكات! اليوم يحتفل من باع بذكرى ما سرق، وتمارس جوقة المتنفعين العزف على أوتار آلاتهم الرخيصة، ليطمسوا ملامح آخر شعاع لأول فجر عرفه المصريون منذ أخناتون. اليوم ينسحب أهل الغضبة الأولى والشهقة الأخيرة من ميادين الحرية تاركين وراءهم مغانم كثيرة انشغل بجمعها أصحاب الجمال والخيول والحناجر والأموال والصفقات. اليوم، يطوي طالبو الحرية ذيول الخيبة بين أفخاذهم ويخرجون من قاعة الحلم، وليس في نياتهم أدنى رغبة في الصهيل، فقد لوث البعر ثيابهم وحولهم الإعلام الفاجر إلى مردة بقرون لا يمر عليهم المواطنون المخلصون إلا وهم يستعيذون. اليوم، تأتي ذكرى الثورة على ذكرها، ويتحول المنتفعون من الثوار إلى طواطم يضعها الأفاكون فوق الأسفلت وحول خصور الميادين ليباعدوا بين حجاج الحرية وكعباتهم، ويعيدوا الشعب إلى شرانقه القديمة بلا عيش ولا حرية ولا عدالة. واليوم، يحترق البوعزيزي في صمت، فتزكم رائحة الشواء أنوف الجميع، لكن أحدا لا يرق لفراقه، ولا يتطوع للسير خلف جنازته أحد مخافة أن يتهم.

عبد الرازق أحمد الشاعر[email protected]

شاهد أيضاً

الأزمة في تونس: كيف وصلت البلاد إلى هذه المرحلة؟

تحقيق/حماده جمعه في عام 2011 انطلقت شرارة ربيع الثورات العربية من تونس، وما لبثت أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *